"مجددا" و""هان كونك جو" .. فيلمان آسيويان يجعلان العين تفكر
هذا فيلم مختلف تماما، يسرد برشاقة وعفويّة وبراءة. فيلم موجع في بدايته
وفي نهايته. أشبه بالإصابة بالسهم، جارح حين ينغرز في اللحم وموجع حين
يسحب... فيلم أشبه بقلع ضرس... أتألم من البهجة. لا أحلل. كيف أكتب عن فيلم
صامت يعبر بالصور لا بالحوار؟ فيلم ياباني عطل أسلحتي النقدية
.
طيب. لا أحلل. فماذا أفعل؟
تلقيت لكمة سينمائية يابانية على وجهي. أحتاج وقتا لأستعيد وعيي بعد اللكمة.
كان ذلك "مجددا" للمخرج جونيشي كناي Junichi Kanai. وقبله شاهدت "هان
كونك جو" للكوري الجنوبي لي سوجين. فيلمان من اقصى شرق آسيا، يحكيان قصة
كوْنية. جمعا بين الخلفية الاجتماعية والتحليل السيكولوجي. يوحدهما الموضوع
وتفرقهما المقاربة في السرد والإخراج. صور الفيلم الياباني بكاميرا
مستقرة، فيه لقطات طويلة في فضاءات واسعة خضراء يتدفق فيها الحب والألم،
بينما صور الفيلم الكوري بكاميرا محمولة في فضاءات مزدحمة بالعيون
الفاحصة...
لقد أدركوا مبكرا في شرق آسيا أن "الصورة بألف كلمة" وأن الصورة تجعل
العين تفكر. وقد انعكس هذا الوعي القديم بكثافة الصورة على الأفلام التي
صورها أبناء المنطقة. وهذا وعي لم توفره الثقافة العربية لمخرجيها وانعكس
ذلك على الجانب البصري لأفلامهم.
بفضل الوعي بكثافة الصورة التي تخاطب الروح بألوانها نحتت السينما
اليابانية موقعها العالمي مبكرا مع تحفة "الساموراي السبعة" 1954 للمخرج
أكيرا كيروساوا. وهو الفيلم الذي ألهم سيرجيو ليون في فيلمه "الطيب والشرس
والقبيح" 1966. بينما أكدت السينما الكورية صحوتها في السنوات الأخيرة. وهي
حاضرة في مسابقة الدورة الثالثة عشرة للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش،
وحاضرة في لجنة التحكيم بالمخرج بارك تشان – ووك. وهي تحقق عالمية غير
مسبوقة مع المخرج هونغ سونغ سو Hong Sang-soo.
كتبت الأسطر أعلاه بعد مشاهدتي الأولى لفيلم "مجددا". وقد رجعت لمشاهدته مجددا ليلا لأتعافى من اللكمة:
جرت وقائع الفيلم في مدينة صغيرة تحمل بصمات الحضارة اليابانية لست واثقا من قدرتي على نقل ما شاهدته لكم. سأحاول:
في التحقيق يكتشف القاضي أن المغتصبة ترتبط بمغتصبها بخيوط لا تحصى.
واضح أنه كسرها بينما كان يمكنه أن يحصل عليها برضاها. لذلك تحن إلى
مغتصبها. وهكذا يظهر الفيلم تعقيدات الروح الإنسانية الحائرة بين الكرامة
وصهيل الرغبة.
كان أداء الممثلان معبرا. أظهر الشاب مصداقية مؤثرة وهو يعبر عن مدى حبه
وندمه. وهذا ما زاد من شوق ضحيته إليه. في لقطات كثيرة يكاد المتفرج يقع
في حب المغتصب.
بني الفيلم على قصة قصيرة تتطور مثل حجر صغير وقع في الماء وتتولد عنه
دوائر هادئة لكن متماسكة. كل حدث مستخلص من سابقه في خط سردي واحد ينبع من
صلب الموضوع. تتولى الدوائر حتى لحظة صدمة:
كيف يعقل أن تنتهي قصة حب متبادل باغتصاب؟
لتضميد اللكمة اليابانية تحدثت إلى بعض الزملاء. نوه ياسين عدنان بزاوية
المقاربة المتفردة في الفيلم. سألته: وما المقاربة غير المتفردة؟
أجاب: إنها المقاربة النقيض. وفيها يكون الفيلم مثل مجموعة سكيتشات
متجاورة منفصلة. لا رابط بين فضاءات الفيلم إلا مرور الشخصية الرئيسية بها.
حينها يتوهم المخرج أنه ينقاد لمطالب الجمهور، بينما يكون تناوله سطحيا
لأنه لا يجري أي بحث لكشف حقيقة الشخصية...
ليس هذا هو سبيل الفيلم الياباني، يضيف الشاعر عدنان "بني الفيلم
الياباني على قصة صغيرة وفيه بحث في أعماق الشخصية. يطارد المخرج الشخصية
من الداخل وكلما ظننا أن الفيلم انتهى، صفق الجمهور ووقف البعض للمغادرة،
وفجأة يقترح المخرج نهاية جديدة وهكذا..."
فيلم "مجددا" درس سينمائي لمخرجي السكيتشات الكسالى، وقد توقعت أن يتوج
بالنجمة الذهبية للمهرجان. لكنها آلت للفيلم الكوري"هان كونك جو" الذي يحكي
عن تلميذة نُقّلت من ثانويتها إلى ثانوية أخرى بقرار من المديرة. تلميذة
أهملها والداها. وهي ابنة رسام سكير وأم مطلقة تحاول بناء حياتها من جديد
بتقديم الكثير من التنازلات للرجل الثاني لتبدو له جديدة تماما.
في كل سلوكها تحاول البطلة التي يحمل الفيلم اسمها قطع علاقتها مع
العالم. لمّح المخرج للسبب ومر لعرض النتائج. تعمل البطلة ونعرف على مراحل
مصوغة بعناية أنها تعرضت لاغتصاب جماعي من قبل مراهقين وصارت تواجه مصيرها
وحيدة، وعليها ألا تظهر لأن المجتمع لا يغفر للضحية المرأة... في هذه
الأثناء تُماطل المحكمة في معاقبة الجناة.
يذكرنا فيلم المخرج الشاب لي سوجين بقصة اغتصاب المغربية أمينة
الفيلالي. التعقيد الجديد في الفيلم هو تعدد المغتصبين. وستكتشف التلميذة
مغتصبين جدد مع تقدم أحداث الفيلم.
في ثانويتها الجديدة تتجنب "هان كونك جو" قريناتها إلى أن يكتشفن
بالصدفة صوتها الجميل وعزفها الرائع على القيثارة. يصورنها ويضعن الفيديو
على الإنترنيت. هنا يظهر هذا السلاح الخطير في حياة المراهقين. يكشف الفيلم
استحالة مراقبة الأسر لفتيات لديهن أنترنيت على المحمول. وقد عقد الفيديو
حياة "هان كونك جو"... تسلط عليها أولياء المراهقين يطلبون منها أن توقع
تنازلا للجناة. وبذلك يتكرس أن المغتصبة تتحمل تبعات اغتصابها. والذي
أحزنها أن والدها حصل على مال ليبيع تنازلها... الرجال معفيون من الحساب،
والنساء هن اللواتي يدفعن الحساب كاملا.
الفيلم واقعي قوي. فيلم تخييلي صور بطريقة أقرب للفيلم الوثائقي. يبدو أنه صور بميزانية صغيرة.
في الفيلم الأول كان الاغتصاب ناتجا عن شدة مراقبة الأم للمراهقة. في
الفيلم الثاني نتج الاغتصاب عن غياب تام لمراقبة الوالدين. الواضح أنه زادت
خطورة تربية المراهقين الذين يُصغون للشبكة العنكبوتية أكثر من آبائهم
وأمهاتهم.
لقد كان التفكك الأسري موضوعا رئيسيا للكثير من أفلام المهرجان. لكن
لسينما شرق آسيا لمستها. لذا قدمت معالجة هادئة للاغتصاب تنبع من الفلسفات
الشرقية. وذلك بتجنب الاصطدام والتشهير. يمثل فيلم "مجددا" روح الحضارة
اليابانية فالمخرج يدرك طبيعة المجتمع الذي خرج منه. وقد نظم جلسة إنصات
ومكاشفة بين الضحية والجلاد. في التعاليم البوذية الحياة معاناة وتنبع
المعاناة من الرغبات. وهذا ما حصل للشابتين، فالبحث عن التجربة والثقة
بجماعة من المراهقين في بيت مغلق جلبت المعاناة. وقد عالج الفيلم الاغتصاب
بدون ضجيج ووسائل إعلام. صحيح، لقد شاع خبر الاغتصاب في الثانوية لكن بشكل
متأخر. وقد مكن الزمن الضحيتين في الفيلمين من فهم تجربتهما. وقد كان شيوع
الخبر صدمة وخطوة أولى في تقاسم العبء اجتماعيا. وهذه خطوة حاسمة لعلاج
جراح الروح.
في الدورة الرابعة عشر للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش التي ستنعقد من من
5 إلى 13 دجنبر 2014 سيكرم المهرجان السينما اليابانية. هذا رد اعتبار
لفيلم مجدد وللسينما اليابانية ككل.
0 commentaires: