وضعية الإمام في مكيال القانون الهولندي
في القانون الهولندي يتم التمييز بين رجل الدين وعامة الناس. بناء على
عدة مسائل قانونية كانت تتعلق بالإمام، حددت وضعية الإمام المأجور كرجل
دين. ينطبق هذا التعريف على إمام المسجد كما ينطبق على الإمام الذي يشتغل
في المؤسسات العمومية كالمستشفيات، السجون والجيش. هذا التحديد القانوني له
تبعات على الإمام نفسه وعلى الأفراد الذين تربطه بهم علاقة "رعوية".
إحدى هذه التبعات، تمتع الإمام بقدر كبير من الاستقلالية المهنية حيث
أنه ليس بمقدور الدولة أو الجماعة تحديد ما يجب على الإمام قوله أو إعلانه
ولا كيف يجب عليه القيام به. من ناحية أخرى ينتظر من الإمام أن يكون مدركا
لحدود مجاله الوظيفي بصورة واضحة، وأن لا يتدخل في مسائل خارج اختصاصه وأن
يأخذ المسافة اللازمة في علاقته بالأفراد المحتاجين لخدمته الروحية. من بين
التبعات أيضا، أن الإمام شأنه في ذلك شأن القس عند المسيحيين والحبر عند
اليهود وكذا المحامي والطبيب، يزاول مهنة معتبرة وذات قيمة مجتمعية رفيعة
ويتاجر في بضاعة- ثقة كما يسمونها في علم السوسيولوجيا.
وهذا يعني أن الإمام واجب عليه التزام السرية في تعامله، وأن لا يبوح
بأسرار وقصص الناس لأنه أمن عليها لوظيفته الاعتبارية لا لشيء آخر، وإن فعل
فإنه يعرض نفسه للمسائلة حيث أن ذلك ممنوع بموجب القانون، لهذا كله يتمتع
الإمام بمكانة تفضيلية، فهو غير ملزم بالإدلاء بشهادته أمام المحاكم في
قضية تتعلق بشخص لجأ إليه لطلب خدمة روحية.
في السجون لا يسمح بالتنصت على الأئمة شأنهم في ذلك شأن المحامين
،الأطباء ، الأطباء النفسانيين والقساوسة وذلك لتفادي استغلال مكالماتهم
وأحاديثهم مع المتهمين في المسائل التي تهم العدالة. من التبعات كذالك أن
الإمام يعتبر أيضا مساعدا اجتماعيا يمتلك رؤية واضحة وشاملة عن الأفراد
الذين يقوم بخدمتهم لهذا يجب عليه التزام المسافة المهنية الواجبة في كل
تعاملاته.
في سنة 2012 كان هذا موضوع قضية رفعتها سيدة ضد إمام في المحكمة (كما
يقول المثل المغربي: خَرْجُوا رَجْلِيه الشْوَارِي) . تدور أحداث هذه
القضية حول سيدة مسلمة كانت تتعرض لنوبات خوف مرضي تصاحبها مشاكل في التنفس
(NRC سبتمبر6 2012).
كانت هذه السيدة تبحث عن علاج لحالتها عن طريق البحث في أسباب مشاكل من
الماضي لم تتعامل معها كما يجب في حينه. عن طريق أخيها وصديقة لها طلبت هذه
السيدة من إمام المسجد مساعدتها باعتباره راعيا وخادما روحيا، هذا الإمام
الذي لم تكن له سابق معرفة بها جاء عندها في الساعة الحادية عشرة مساءا،
وغادر بيتها على الساعة الثالثة صباحا. في هذا الحيز الزمني نوقشت مشاكل
هذه السيدة بشكل مستفيض، لكن الأمور تطورت إلى معاشرة جنسية. فيما بعد
تقدمت المرأة بشكاية ضد الإمام بدعوى التحرش والاستغلال الجنسي.
لم ينكر الإمام الواقعة ولكنه أضاف أنه وقت المعاشرة الجنسية لم يكن
يمارس دوره الرعوي وأن العلاقة الجنسية كانت بناءا على توافق وتكافؤ، بمعنى
أنه لم يكن إماما ساعة ممارسة الجنس مع السيدة. بنى القاضي حكمه على أساس
أن هذه العلاقة تمت أثناء لجوء السيدة إلى الإمام بغرض المساعدة لهذا
اعتبرت العلاقة الجنسية فسوقا واستغلالا وعدم حفظ للأمانة، كما أقرت
المحكمة بأن الإمام موضوع الدعوى يقدم مساعدته باستمرار لمسلمين آخرين في
مناسبات مختلفة كحالات الوفاة ، الطلاق وحتى الإدمان، إذن فهو مكون لذلك،
ولهذا تم الاتصال به من طرف هذه السيدة، كما أنه يعتبر مساعدا اجتماعيا
باستطاعته تقييم الحالة النفسية لزبونته وأنه يجب عليه عدم استغلالها، لأن
هذه السيدة لم تكن في وضع نفسي يمكنها من مقاومة إستغلاله لها. خلاصة
القول، وظيفة الإمام لا تسمح له أن يكون إماما وقتما يشاء، فهو دائما إمام.
وحكمت المحكمة على الإمام بسنة سجنا نافذا.
وظيفة الإمام تعتمد التخصص بامتياز، وهذا التخصص لا يقتصر فقط على
المهام اليومية البسيطة كإمامة الناس في الصلاة والقيام بطقوس أخرى ولكن
يشمل أيضا منظومة معقدة من المهام المتعلقة بدراسة وتفسير النصوص اللاهوتية
والقانونية وإيصال هذه التفسيرات بشكل مبسط، موثوق ومقنع لمن لهم علاقة
رعوية معه. وظيفة الإمام سواء تعلق الأمر بإلتزامه مع المجتمع أو مع
الأفراد تبقى عملا متخصصا، وذات مكانة اعتبارية رفيعة.
هناك مسألة تفرض نفسها وهي قضية التقليل من أهمية الإمام من طرف المجتمع
والأفراد خارج أسوار المسجد، حيث أنه لا يحظى بالتقدير الواجب على الرغم
من مهامه خارج المسجد كزيارة المرضى، ومعالجة بعض الحالات بقراءة القرآن
والدعاء ومصاحبة المحتضرين في لحظاتهم الأخيرة، وتغسيل الموتى وترؤس مراسيم
الدفن، ومواساة أقارب الموتى والدعاء لهم بالصبر والسلوان، كذالك إبرام
ومباركة الزواج والدعاء للمواليد الجدد والتوسط في الخلافات التي قد تحدت
بين الأب وإبنه أو الزوجة وزوجها، وإسداء النصح والمشورة في مسائل خاصة،
كذالك الحضور في مناسبات مختلفة لقراءة القرآن والدعاء لمنظم الحفل أو
اللقاء وللحضور وللأمة جمعاء. كل هذه المهام تشكل الجوانب المختلفة لوظيفة
الإمام والتي تتطلب جهدا وطاقة من الإمام.
من الناحية النظرية يتمتع الإمام بوضعية اعتبارية معتبرة سواء عند عموم
الناس أو عند كثير من الدوائر الرسمية، لذا يطلق عليه عند عامة الناس "حامل
هموم الناس " السرية والثقة التي تقوم عليها وظيفة الإمام كانت موضوع
الشريط التلفزي المغربي "سر العرصة".
يتطرق الفيلم إلى أن الإمام أو الفقيه كما يطلق عليه في أوساط العامة
يؤتمن على معلومات غاية في الخصوصية كما يصور كيف تدور الأحاديث الخاصة بين
الإمام وأشخاص من مختلف الطبقات الإجتماعية، كما يتطرق الفيلم الى كيفية
إشراك الإمام في الأمور الخاصة وفي طريقة البوح له بأمور قد تكون محرجة
لصاحبها، وفي مثل هذه اللقاءات يتم تذكير الإمام بواجبه الديني والأخلاقي
في الحفاظ على الأسرار كما يفرض العهد ذالك. هكذا رأينا كيف أن سيدة باحت
للإمام بسر مفاده أنها ليست أم بطل الشريط الذي كان مولده نتيجة اغتصاب كما
باحت للإمام بمن تكون أمه البيولوجية ، وعلى فراش الموت تطلب هذه السيدة
من الإمام أن يخبر ولدها بالتبني بحقيقة من تكون أمه، وأن لا يبوح بسر من
يكون الأب البيولوجيـا، والذي هو رجل من الأعيان.
تطرق الغزالي لدور رجال الدين من علماء وأئمة كصناعة أو كحرفة في المجال
العمومي، كما أنهم يتموقعون في المرتبة الثالثة و الرابعة على التوالي في
الوظيفة العامة بعد الرسل والحكام. تطرق الغزالي أيضا إلى مناصب الدين التي
ينتمي إليها الإمام.
من يدرس دليل الإمام والخطيب والواعظ
والذي نشرته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالتعاون مع المجلس العلمي
سنة 2006 سيكتشف في هذا المرجع أن وضعية الإمام تتطابق إلى حد كبير مع ما
هو مبين أعلاه من حيث المكانة الوظيفية والاعتبارية المعتبرة، وهذا ما
سأتناوله بالدرس والتحليل فيما بعد. فيما بعد
* باحث وكاتب هولندي من أصل مغربي، ورئيس هيئة العناية الروحية الإسلامية في وزارة العدل الهولندية
0 commentaires: